بقلم: أحمد هماش

مُقدمة:

تعتبر الحراكات الشبابية من أبرز وأهم الأنشطة الاجتماعية والسياسية الحديثة التي شاعت وانتشرت خلال السنوات الأخيرة في دول العالم العربي، وتحديداً خلال ما يُعرف بثورات الربيع العربي. ولم تكن فلسطين بمنأى عن هذه الظاهرة السياسية الجديدة، حيث شهدت الساحة الفلسطينية منذ العام 2010[1]، نشأة وتَشكل العديد من الحراكات الشبابية، التي جاءت للتعبير عن رغبة الشباب في إحداث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية. ورغم أهمية الدور الذي لعبته هذه الحراكات في السياق الفلسطيني في محاولتها لإنعاش العمل السياسي الفلسطيني من جهة، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي باعتباره عملاً جماهيرياً من جهة أخرى، إلا أنها أثارت العديد من التساؤلات والانتقادات حول نشأة هذه الحراكات وأساليبها ومساعيها في إحداث التغيير.

وباعتبار أن النقد عامل أساسي في تطوير وتصحيح العمل السياسي، إلا أن هذه الانتقادات لم تكن بهدف تطوير الحراكات باعتبارها عملاً سياسياً، وإنما لإبعادها عن الساحة السياسية وإضعافها. وقد تصدرت الجهات السياسية الرسمية المتنفذة[2]، التي تحتكر العمل السياسي، الهجوم على هذه الحراكات وشيطنتها بهدف منع ظهور أي محاولة لبلورة عمل سياسي لا يكون من خلالها، أو بالحد الأدنى إخضاع أو احتواء تلك الحراكات لسيطرتها واستغلالها كأداة من أدواتها. إلى جانب ذلك، ساهمت بعض الأحزاب السياسية الصغيرة والتي تعيش على هامش الأحزاب الكبيرة، وبعض النخب المستفيدة من الوضع القائم، في هذه الهجمة إلى الحد الذي وصلت فيه الأمور في بعض الأحيان إلى تخوين الحراكات والقائمين عليها.

يسعى هذا المقال بشكل أساسي إلى محاولة فهم ظاهرة انتشار الحراكات في فلسطين بشكل خاص، ومحاولة الإجابة على بعض الأسئلة التي تتمثل في؛ ماهية الأسباب التي دفعت إلى بروز وانتشار هذا الشكل الجديد من العمل السياسي. لماذا تُصرّ الحراكات الشبابية على إعلان استقلاليتها السياسية في الوقت الذي تسعى فيه إلى إحداث تغييرات سياسية واجتماعية؟ وهل يُمكن لما هو غير سياسي أن يُحدث تغييرات سياسية جوهرية؟ ولعل السؤال الأهم هو هل يُمكن فصل العمل السياسي عن العمل التحرري في حالات الإستعمار – الإحلالي مثل الحالة الفلسطينية؟

ويجب التأكيد هنا على أن هذا المقال لا يسعى إلى تقزيم دور الحراكات الشبابية أو انتقادها لمجرد الانتقاد، وإنما لتسليط الضوء على نقاط ضعف الحراكات التي ساهمت في تفككها واندثارها في أغلب الأحيان، بهدف تطوير أداء هذه الحركات بما يضمن استمراريتها وقدرتها على التغيير.

 

التطورات والتحولات في العمل السياسي والاجتماعي: لمحة عامة

شهدت الساحة الفلسطينية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي حراكاً تحررياً وثورياً ضد الاستعمار البريطاني والهجرة الصهيونية إلى فلسطين، حيث تم تأسيس العديد من الأحزاب والمجموعات السياسية المقاومة التي هدفت إلى التحرّر وتقرير المصير على أرض فلسطين.[3] وقد لعبت غالبية هذه الأحزاب دوراً هاماً في مقاومة الاستعمار، إلا أنها في النهاية فشلت في تحقيق رؤيتها المتمثلة في دحر الاستعمار البريطاني ووقف الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. في المقابل، نجح المشروع الاستعماري في تأسيس ما أصبح يُسمى "إسرائيل" عام 1948، الأمر الذي أدى إلى تشتيت 85٪ من الشعب الفلسطيني وتفكك هذه الأحزاب والهيئات السياسية.

ولم تُشكّل نكبة عام 1948 وتشتّت الشعب الفلسطيني عائقاً أمام قدرته على إعادة تنظيم نفسه ونضاله ضد الاستعمار، حيث نشأت العديد من الأحزاب والجبهات السياسية الفلسطينية في الفترة الممتدة ما بين عام 1948 وصولاً إلى مطلع التسعينيات، والتي هدفت بشكل مركزي إلى تفكيك المشروع الاستعماري في فلسطين وتحريرها من بحرها إلى نهرها. وقد شكلت هذه الأحزاب السياسية على اختلاف أيديولوجياتها، وأدواتها التحررية نقطة مفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني وحركة التحرر. إلى جانب ذلك، ساهم النظام الدولي ثنائي القطبية في تلك الفترة وانتشار حركات التحرر حول العالم، في تطور حركة التحرر الفلسطينية واكتسابها زخماً دولياً باعتبارها قضية أممية مركزية.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي وبروز نظام دولي جديد تتربع الولايات المتحدة على رأسه، تأثر العمل السياسي والمجتمعي بهذا التغير في النظام الدولي في مختلف مجتمعات ودول العالم. وقد جاءت هذه التغيرات بهدف تكريس سطوة الولايات المتحدة باعتبارها شرطي العالم من جهة، وتعميم أيديولوجيتها التي اعتبرت آنذاك بأنها نهاية التاريخ والمنهج الأمثل في معالجة قضايا الانسان من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، بدأ فاعلون من غير الدول مثل المؤسسات الدولية، والمؤسسات غير الحكومية والشركات العابرة للقارات في أخذ دور أكبر في النظام الدولي والسياسة والمجتمعات، مقابل تراجع أهمية الحزب.

ولم تكن فلسطين والقيادة الفلسطينية الممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية بعيدة عن هذه التغيرات الدولية، حيث انخرطت تحت "رعاية" الولايات المتحدة في عملية سلام مع "إسرائيل"، ولم تحقق نتائجها بحدها الأدنى لغاية يومنا هذا. ولم تقتصر التغيرات في النظام الدولي على القضية الفلسطينية في الدخول بعملية سلام لا-منتهية منذ مطلع التسعينيات، وإنما انعكست بشكل كبير على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الداخلي الفلسطيني. فمنذ مطلع التسعينيات، شهدت الساحة السياسية الفلسطينية مرحلة بناء "الدولة" على جزء من أرض فلسطين، والتي بدورها أحدثت تحوّلات سياسية ومجتمعية واقتصادية جوهرية في المجتمع الفلسطيني.

ولعل أهم هذه التحولات التي طرأت هي انتقال العمل السياسي والمجتمعي باعتباره عملاً جماهيرياً شاملاً يشارك فيه الكل الفلسطيني، إلى نشاط سياسي تحتكره القوة المهيمنة بناءً على مكان تواجدها. في الضفة الغربية ومنذ مطلع التسعينيات، احتكرت السلطة الفلسطينية العمل السياسي في أروقة المكاتب والمؤسسات، حيث أصبح التركيز السياسي ينصب على الخارج الفلسطيني "المؤسسات الدولية، وعمل المناصرة" ويشغل المساحة الأكبر من العمل السياسي الفلسطيني، مع تراجع العمل الجماهيري والشعبي.

في المقابل وبعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2006، تم التعامل مع العمل السياسي بشكل عسكري محض، ولم يعد أي شخصٍ "غير عسكري" قادراً على الانخراط في العمل السياسي أو التنظيمي بشكل فعّال. وأصبح من الصعب تقديم أيّة رؤية أو أيديولوجيا سياسية تختلف عن تلك التي تُقدمها حماس، باعتبارها الفصيل المسيطر على قطاع غزة. وكما هو الحال في الضفة الغربية، لاحقت وقمعت حركة حماس كل أشكال التغيير أو المطالبة بالتغيير التي حاول الشباب الفلسطيني تقديمها أو طرحها.

أما فيما يتعلق بغالبية التنظيمات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، فإنه ومنذ مطلع التسعينيات، تحول الخطاب السياسي من خطاب تحرّري إلى خطاب المواطنة والمساواة، الذي يتماشى مع المؤسسة الاستعمارية. وبالتزامن مع توقيع اتفاق السلام المعروف بأوسلو، ازدادت المشاركة في الكنيسيت الإسرائيلي ضمن إطار خطاب المواطنة وتحسين الظروف المعيشية. ولم يعد هنالك تأثير كبير للأحزاب أو الجماعات التي لم تنخرط في المؤسسات الاستعمارية، إذ أصبحت المشاركة السياسة ومحاولات "احقاق الحقوق" من داخل المؤسسات الإسرائيلية الاستعمارية، هي المسار الرسمي لممارسة العمل السياسي داخل الخط الأخضر، بعيداً عن الجمهور والشارع الفلسطيني.

بذلك، يمكن القول أن العمل السياسي في فلسطين الانتدابية قد تم اختطافه واحتكاره في ثلاثة أقطاب رئيسية تحكم جزءاً من الشعب الفلسطيني، وتعمل على منع وشيطنة أي عمل سياسي منظم جديد. وبينما حاولت هذه الأقطاب على مدار ثلاثة عقود الهيمنة على باقي الأحزاب السياسية الفلسطينية وضمها تحت إرادتها، منعت أي عمل سياسي منظم وقابل للمراكمة من الظهور. لقد تركت هذه السياسة أثراً كبير على وعي الأجيال الناشئة التي أصبحت تتعامل مع الأحزاب السياسية القائمة باعتبارها "قدراً" من جهة، وأن العمل السياسي البديل "خطيئة" يجب الابتعاد عنه من جهة أخرى.

بجانب ذلك، لعبت العديد من المؤسسات غير الحكومية دوراً كبيراً في تكريس الخطاب الحقوقي "غير المسيَّس"، والذي تكامل مع المسار الذي تقوده هذه الأقطاب السياسية. فبينما كانت "حيادية" المؤسسة وابتعادها عن العمل السياسي شرطاً لحصولها على التمويل والدعم، كانت استقلالية الشباب عن العمل السياسي مدخلاً للانتفاع من برامج هذه المؤسسات، التي تؤهلهم للعمل في هذه المؤسسات لاحقاً. وبالتالي، أصبح الخطاب المطلبي الحقوقي وغير المسيَّس هو الخطاب المهيمن على العمل السياسي الفلسطيني، الأمر الذي دفع بالانتقال من معالجة جذور إلى القضية إلى التركيز على نتائجها وعواقبها.

انعكس هذا الخطاب بشكل سلبي على الشعب الفلسطيني الذي جُرّد من الفعل الذاتي، وأصبح "عدم الاعتماد على الذات" في تحقيق الأهداف السياسية هو الاستراتيجية السائدة. فتارة نُطالب المجتمع الدولي بإنصافنا، وتارة أخرى نُلقي بهذا العبء السياسي على الأجيال القادمة والشباب، إلى أن أصبح مفهوم "الشباب" ضمن استراتيجية "اللا-تسييس - Depoliticization" فقاعة وهمية غير موجودة. وقد تبنّى الشباب، وتحديداً "النُشطاء" والقائمين على الحراكات" هذا الخطاب، إذ أصبحوا يتحدثون عن "دور الشباب" المستقلّ وغير المسيَّس من زاوية موضوعية يعزلون فيها دورهم عن أي فعل.

 

الحراكات الشبابية والعمل السياسي

لعبت ثورة الياسمين التي اندلعت في تونس عام 2010 وبمشاركة واسعة من الشباب، دوراً هاماً انعكس على السياسة في العالم العربي بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص. ورغم أن الحالة السياسية في فلسطين كانت مختلفة، إلا أنها تأثرت بموجة المطالبة بالتغيير التي انتشرت في بعض دول العالم العربي، وبادر العديد من الشباب الفلسطيني إلى محاولة محاكاة ما يحصل في العالم العربي بمشاركة واسعة من الشباب ضمن إطار جديد اتفق على تسميته "الحراك".

تزامن ظهور هذه الحراكات في فلسطين في مرحلة يعاني فيها العمل السياسي الفلسطيني من تكلُّس وجمود وتراجع، بسبب تراجع دور الأحزاب الفلسطينية من جهة، وازدياد القمع الإسرائيلي الذي تبع الإنتفاضة الثانية لأي عمل سياسي منظّم من جهة أخرى. وفي ظل حالة التهميش لدور الشباب في فلسطين، جاءت الحراكات الشبابية لتلعب دوراً هاماً في تفعيلهم ودمجهم في الحياة السياسية. ويمكن القول هنا أن الحراكات لعبت دوراً محورياً في الشارع الفلسطيني لسببين رئيسيين؛ الأول: منحت الفرصة للشباب الفلسطيني بالمشاركة السياسية، حتى لو كانت هذه الفرصة مؤقتة. وثانياً، أعادت العمل السياسي الفلسطيني إلى مكانه الطبيعي في الشارع وبين الجماهير، بعد أن تم احتكاره في المكاتب والتركيز على الخارج، وخصوصاً في الضفة الغربية.

ورغم غياب تعريف واضح لمفهوم الحراك وعدم وجود أيديولوجيا تعكس رؤية هذا الحراك والقائمين عليه، على خلاف الحزب السياسي، إلا أنه شكّل مساحة واسعة لاستيعاب الشباب وطاقاتهم الساعية للتغيير على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية. وهنا يجب التأكيد على أن الحديث عن غياب تعريف لمفهوم الحراك لا يُعتبر ترفاً أكاديمياً أو نظرياً، وإنما ضرورة لفهم هذا الإطار السياسي، وأدوات تغييره، والأهم من ذلك برنامجه السياسي وتصوّره لشكل التغيير الذي يرغب بإحداثه.

وبنظرة سريعة على الحراكات الشبابية التي تأسست خلال السنوات الأخيرة، فإنه يمكن القول بأنها لم تقدم برنامجاً سياسياً شاملاً يوضح تصورّها للمستقبل، أو للتغيير الذي تسعى لإحداثه. على النقيض من ذلك، تعاملت في أغلب الأحيان مع القضايا المجتمعية والسياسية باعتبارها قضايا محددة ومتفرقة، بعيداً عن السياق الأوسع، الأمر الذي يعني التعامل مع عواقب ونتائج الإشكالية وليس جذورها. ويمكن الإفتراض هنا أن معالجة القضايا المجتمعية بشكل مُجزأ وبعيداً عن السياق السياسي يوحي بأن الوضع القائم هو الوضع المثالي، باستثناء ما يتعلق بمطلب الحراك، ما يطرح تساؤلات عديدة أبرزها؛ هل المشكلة مع الوضع القائم مشكلة وجودية أم مشكلة سلوكية؟ فإذا كانت المشكلة "وجودية"، فالحاجة تقتضي وجود برنامج سياسي واضح ويشمل حلولاً وتصوّراً لمختلف المشاكل "المطلبية"، أما إذا كانت القضية "سلوكية" ومرتبطة بانتهاك معيّن، علماً بأن العديد من الحراكات ترفع شعارات أكبر من القضايا المطلبية[4]، فإنه يمكن تجاوزها بمعالجة هذه القضية.

وتتجلى إشكالية غياب البرنامج السياسي لدى الحراكات الشبابية في عدم تصوّر بديل للمستقبل، الأمر الذي يجعل منها أطراً سلبية، تُركّز على الرفض دون القدرة على تقديم أو فرض بدائل.[5] فمن الواضح أن الحراكات متفقة على ضرورة وأهمية التغيير، وأنها ترفع شعارات ترفض وجود ما يُسمى "بالنظام السياسي" لكن دون تصوّر لشكل هذا التغيير، وهو ما يفُقد الحراكات جزءاً مهماً من عملها ويجعل فعلها السياسي منقوصاً، وينتظر ممن يسعى لتغييره أن يقوم بالتغيير.

من جهة أخرى وبسبب غياب برنامج سياسي، لم تستطع أغلب الحراكات الاستمرار في مطالبها وسرعان ما تم تفكيكها أو احتوائها من السلطات القائمة وتسخيرها لخدمة مصالح هذه السلطات. وتعكس هذه النقطة جانباً هاماً مفاده أن العمل السياسي ليس عملاً عشوائياً يأتي كردة فعل على حادثة مُعينة، وإنما حالة منظّمة من العمل المنظم والقابل للمراكمة، والذي يضع تصوراً لمختلف قضايا المجتمع والإنسان من جهة، ويكون قادراً على التعامل مع المتغيرات والقضايا الطارئة ضمن رؤية واضحة تعكس استراتيجية وأيديولوجيته من جهة أخرى.

يُضاف إلى ذلك عدم قدرة الحراكات الشبابية في أغلب الأحيان على التعامل مع القضايا الإشكالية داخلها، بسبب عدم وجود أيديولوجيا واستراتيجية يتم معالجة القضايا على أساسها. فالنشطاء الذين ينضمون إلى حراك مُعين يتفقون على الحد الأدنى من المعايير، وهو ما يرتبط بشكل مباشر فيما يتعلق بإحداث التغيير المنشود في السياق "المطلبي". لكن حينما تكون الإشكالية "وجودية"، فإن المطلوب وجود أيديولوجية تُحدد وجهة الحراك/الإطار من مختلف القضايا والمشاكل التي تواجه الإطار، والانسان والمجتمع. فعلى سبيل المثال، تُعتبر مسألة القيادة إحدى القضايا الإشكالية داخل الحراكات، والتي تنعكس بشكل واضح على أداء الحراكات وتعاطيها مع المستجدات المرتبطة بتأسيسها. فلا يوجد آليات واضحة أو هيئات يصدر عنها قرارات لمعالجة المستجدات، ويُترك الأمر للإرتجال الذي لا يكون دائماً في مصلحة الحراكات.

من جهة أخرى، يُمكن الافتراض أن الحراكات الشبابية هي أحد مظاهر سياسة "اللاتسييس"، التي عملت السلطات القائمة في فلسطين بحدودها الانتدابية، على ترسيخها في أذهان الشباب الفلسطيني على مدار ثلاثين عاماً، والتي تتمثل بشكل رئيسي في شيطنة أي عمل سياسي، وترسيخ الخطاب الحقوقي والقانوني بعيداً عن السياق الإستعماري، وهو أحد أهم الأسباب التي دفعت بالشباب بعيداً عن العمل السياسي. وما يدعم هذا الافتراض أنه وبمجرد تأسيس الحراك، فإنه يُسارع إلى إعلان استقلاليته السياسية، وأنه حراك "غير سياسي"، رُغم أن مطالبه سياسية. فما المقصود باستقلالية الحراك؟ وهل يمكن لما هو غير سياسي، أي الحراك، إحداث تغييرات سياسية ومجتمعية؟ وهل يمكن القيام بفعل "غير مُسيّس" في بيئة سياسية معقدة مثل فلسطين؟

 قد يكون المقصود "باستقلالية الحراك" هو عدم تبعيته لأي حزب من الأحزاب الفلسطينية القائمة، لكن، لماذا يتم حصر السياسية واحتكارها بالأحزاب القائمة؟ وهل أصبح من غير الممكن ممارسة السياسة ضمن إطار سياسي بعيداً عن هذه الأحزاب؟ إن هذه الخطاب من اللا-تسييس الذي تتبناه أغلب الحراكات الشبابية يصب في مصلحة المتنفذين ويخدم استراتيجياتهم في احتكار العمل السياسي، وشيطنة أي عملية سياسية لا يُسيطرون عليها. كما يوحي هذا الخطاب بأن الحراك قد جاء كردّة فعل دون أهداف سياسية واضحة تخدم الشعب وتحفظ الأرض، ما يجعل قمعه واحتوائه أمراً سهلاً.

في المقابل، تمتلك التنظيمات المهيمنة برامج سياسية واضحة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها وتلبيتها لاحتياجات الشعب، ما يُضفي عليها شرعية معينة، وهنا تظهر أهمية اكتساب العمل السياسي إلى "شرعيّة" و"اعتراف" من المجتمع بشكل أساسي. وفي حالة التنظيمات المهيمنة والمحتكرة للعمل السياسي في فلسطين، فإنها تستمد شرعيتها من عملها المقاوم أو تاريخها النضالي. ورغم أن العمل المقاوم في العديد من الأحيان أصبح جزءاً من التاريخ، إلّا أنه عادة ما يتم استخراجه بين الفينة والأخرى لتجديد الشرعيّة، والتذكير بأن هذه التنظيمات جاءت في إطار تضحيات أبنائها.

من جهتها، تُركّز غالبية الحراكات الشبابية بشكل كبير على الإنتقادات الداخلية للسلطات القائمة، وتربطها بتغييرات سياسية، واجتماعية واقتصادية محددة دون برنامج واضح مرتبط بالمنظومة الاستعمارية. ومن الضروري التأكيد هنا على أن هذا المنهج لا ينتقص من وطنية الحراكات أو القائمين عليها، إلا أنه وفي الوقت ذاته لا يمنح هذا المنهج الحراكات الشرعية الضرورية لإجراء التغيير. فالقضية في فلسطين سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ليست مرتبطة بحركات إصلاحية مؤقتة، وإنما في تقديم برنامج يستطيع تقديم بدائل حقيقية وملموسة على أرض الواقع. فالشرعيّة في سياق الاستعمار لا تُمنح بسبب عدالة القضية أو مطالبها، وإنما تُنتزع من خلال برنامج وطني يواجه الاستعمار وما نتج عنه، ويضع تصوّراً واضحاً للمستقبل.

 

الخاتمة:

لا شك بأن الحراكات الشبابية في فلسطين قد لعبت دوراً هامّاً ومحوريّاً في العمل السياسي الفلسطيني خلال السنوات العشرة الماضية، وتحديداً فيما يتعلّق بمحاولات إعادة العمل السياسي والجماهيري إلى الشارع والحيّز العام. كما أنها ساهمت في تسليط الضوء على العديد من القضايا المجتمعية والسياسية، والتي هي فعلياً بحاجة إلى نقاش مجتمعي وعمل سياسي لمعالجتها. الأهم من ذلك، حاولت هذه الحراكات استعادة العمل السياسي الذي تم احتكاره من قبل الأحزاب الحاكمة والمشاركة فيه، باعتباره عملاً جماعياً يمسّ مختلف جوانب حياة الفلسطينيين.

ورغم نجاح هذه الحراكات في الوصول إلى الشباب وحشد أعداد كبيرة، وتحديداً في الوقت الذي لم تنجح فيه العديد من الأحزاب السياسية في إصدار بياناً أو الدعوة إلى فعالية جماهيرية، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها أو مطالبها في أغلب الأحيان. ولم يقتصر الأمر هنا على انعدام تحقيق الأهداف أو المطالب والذي قد يُعتبر أمراً طبيعياً ومقبولاً بسبب حداثة هذا الإطار السياسي وغياب خبرته، إلا أن الأسوأ من ذلك هو اندثار وتفكك هذا الحراك بعد أن يستهلك نفسه أو يتم قمعه. ولعلّ السبب الأساسي وراء تفكّك هذه الحراكات هو أنها في الغالب تُعالج قضايا محددة ومعينة، وباعتبار أن فلسطين تُشكل حالة مُعقدة من الإستعمار الإحلالي يتخلّلها الكثير من التشوهات السياسية والانقسامات، فإن كل يوم يشهد حدثاً طارئاً يجذب انتباه الشعب، الأمر الذي من شأنه أن يُضعف الحراك أو يُشتّته.

في والوقت ذاته، إن التركيز على القضايا المجتمعية والحياتية، رغم أهميتها، لا يُكسب الحراك شرعيّته السياسية، وخصوصاً في ظل استمرار السياسيات الاستعمارية. لذلك، تفقد مسألة المراكمة أهميتها في سياق الحراكات الشبابية لأنها لا تعمل ضمن برنامج سياسي قابل للمراكمة، وإنما تعتمد على الأحداث اليومية، التي تجعل منها ردّ فعل على سياسة مُعينة. وبينما تكون القضية المركزية في فلسطين هي قضية وجودية حيال الاستعمار وما نتج عنه، فإن مناقشة أو معالجة تداعيات وسلوكيات هذه القضية، سيكون له أثره السلبي على القضية. ومن الضروري هنا التأكيد على أهمية عدم تجاهل الانتهاكات التي تقوم بها الأحزاب المتنفذة، ولكن أيضاً لا يجب الابتعاد عن جذور الإشكالية المتمثلة في غياب برنامج سياسي حقيقي يأتي تحت إطار تنظيمي مستمر وقابل للمراكمة ويسعى للتغيير ضمن تطلّعات هذا الإطار السياسي.

وقد يُجادل بأنه رغم فشل هذه الحراكات في تحقيق أهدافها ومطالبها المرحلية، إلا أنها مهمة للتراكم الذي قد ينشأ عنه عملاً قابلاً للمراكمة والتغيير في المستقبل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو؛ لماذا لا يتم الاستفادة من تجارب التنظيمات والأحزاب الفلسطينية القائمة والمراكمة عليها؟ فالتنظيمات الفلسطينية الحالية لم تكن بداية التاريخ، أو بداية النضال الفلسطيني، وإنما جاءت تراكماً لتنظيمات فلسطينية قد سبقتها.

ومع أن جميع القضايا السياسية التي تطرحها الحراكات تتفق على الجوهر في "رفضها" للممارسات السياسية للأحزاب الحاكمة، إلا أنها عملت على تجزئة هذه القضايا والتعامل معها بشكل منفصل عن القضايا الأخرى. وحتى لا يكون النقاش هنا تجاوزياً، لا بد من الذكر بأن هنالك العديد من الحراكات التي سعت إلى ربط نضالها "المطلبي" بالسياق السياسي الاستعماري، إلا أنّه في أغلب الأحيان يكون ربطاً نظرياً لا يُمكن ترجمته بتطبيقات عملية. كما أن ربط قضية بحد ذاتها في السياق الاستعماري قد تعتبر تجريداً من السياق، بسبب فصلها عن باقي القضايا الأخرى.

وقد أدرك العديد من القائمين على الحراكات هذه الإشكالية، حيث برزت بعض المحاولات لتعزيز اللقاءات بين الحراكات المختلفة بهدف توحيد العمل والتكامل، إلا أنه من غير الممكن تحقيق هذه الغاية في ظل غياب أيديولوجية مشتركة لهذا "التجمع"، وغياب نظام ولوائح عضوية واضحة للأعضاء. فالإنتماء إلى إطار سياسي يعني الإتفاق على أهداف ورؤية واستراتيجية هذا الإطار، بكلماتٍ أخرى، الإتفاق على الحد الأعلى من الحقوق والأهداف مع وجود هامش ضئيل للاختلاف فيما يتعلق بالأدوات والأمور غير الجوهرية. فمن غير الممكن أن يختلف أعضاء حركة تحرر على هدف التحرر، أو رؤية الحزب لشكل الدولة بعد التحرّر، بينما هنالك مساحة للاختلاف والنقاش في الآليات والأدوات اللازمة لتحقيق أهداف ورؤية الحزب. في المقابل، يتّفق "النشطاء" في الحراك على الحد الأدنى من الحقوق، التي ترتبط بأهداف ومطالب هذا الحراك.

في الختام، إنَّ تجارب حركات التحرّر بمختلف أشكالها تؤكد على أنَّ عملية التحرر والإصلاح لا تكون من خلال معالجة عواقب ونتائج الإشكالية، وإنما من خلال إلغاء وجود هذه الإشكالية. ولعله من المثير للاهتمام إدراك أنَّ الجهود التي بُذلت في تأسيس حراكات مطلبية، كافية في حقيقة الأمر لبلورة برنامج وطني يُفكّك هذه المنظومة برمّتها، إلا أنَّ تكريس حالة "اللا-تسييس" الراسخة في عقولنا تُجبرنا على استثناء كل فعل جوهره سياسي. لقد وقعت الحراكات الشبابية في خلط واضح بين واقع الصراع "الإصلاحي" و"المطلبي" في الدولة الوطنيَّة ذات السيادة، والصراع التحرّري ضد الاستعمار.

إنَّ حجم التحديات الوجوديَّة التي تواجه الشعب الفلسطيني والحاجة إلى تطوير برنامج وطني (سياسي واقتصادي واجتماعي) أصبحت ضرورة مُلحة. وبمراجعة سريعة لتاريخ حركات التحرّر حول العالم، نرى بأنَّها قد مرتّ بالعديد من الانتكاسات وحالات الخذلان. لكن ما يجب تعلّمه من هذه الحركات هو أنَّ عدم معالجة جذور القضية لا يعني تغييرها أو معالجة نتائجها، وإنما تغيير الوسائل والأدوات و/أو تطويرها.

 


* أحمد هماش: منسق لوحدة التعبئة في مركز بديل للموارد سابقاً، وهو حالياً عضو في جمعيتها العمومية. حاصل على درجة الماجستير في الدراسات الدولية.


[1] تأثرت فلسطين والعديد من الدول العربية باندلاع الثورة في تونس، وبدأت العديد من الحراكات بالظهور لمحاكاة تجربة ثورة الياسمين.

[2] السلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة الغربية، حركة حماس في قطاع غزة، الأحزاب العربية التي تُشارك في انتخابات الكنيسيت في الداخل المحتل عام 1948.

[3] لغاية العام 1948، تم تأسيس أكثر من ستة عشر حزباً سياسياً. للاطلاع على هذه الأحزاب وبرامجها السياسية، بالإمكان زيارة: التنظيمات والأحزاب السياسية الفلسطينية قبل عام 1948

[4] مثل شعارات: إنهاء الانقسام، ضد السياسات الاقتصادية، اسقاط النظام، الانتخابات، وقف التنسيق الأمني.

[5] أحمد جميل عزم، من الحركة إلى الحراك "1908 – 2018" (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية "مسارات"، 2019)، 11.